يُعد السرطان من أكثر الأمراض خطورة وانتشارًا في العالم، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، حيث يُسجل ملايين الحالات سنويًا. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، لاحظ الخبراء ارتفاعًا ملحوظًا في حالات السرطان بين الأشخاص في سن صغيرة، أي تحت سن الـ50 عامًا، وهو اتجاه يثير القلق العالمي. هذا الارتفاع ليس مجرد إحصائية عابرة، بل يشير إلى تغييرات في نمط الحياة، البيئة، والعوامل الوراثية التي تؤثر على الأجيال الشابة. في هذا المقال، سنستعرض الأسباب الرئيسية لهذا الزيادة، مع التركيز على الوقاية كأداة أساسية لمواجهة هذا التحدي الصحي المتزايد. سنعتمد على بيانات علمية حديثة من مصادر موثوقة مثل الجمعية الأمريكية للسرطان ومنظمة الصحة العالمية لتوضيح الصورة الكاملة.

## الارتفاع في حالات السرطان بين الشباب: الحقائق والإحصائيات

شهد العالم ارتفاعًا في معدلات السرطان بين الشباب، حيث أظهرت دراسة نشرتها مجلة "لانست أونكولوجي" في عام 2023 أن حالات السرطان بين الأشخاص تحت سن 50 عامًا زادت بنسبة 79% منذ عام 1990. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ارتفع عدد حالات سرطان القولون والمستقيم بين الشباب بنسبة 1-2% سنويًا منذ التسعينيات، وفقًا لمركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC). أما في أوروبا، فتشير تقارير الاتحاد الأوروبي للسرطان إلى زيادة بنسبة 20% في سرطان الثدي بين النساء تحت سن 40 عامًا خلال العقد الماضي.

هذا الارتفاع لا يقتصر على نوع واحد من السرطانات؛ بل يشمل أنواعًا متعددة مثل سرطان الدم، الكبد، البنكرياس، والجلد. في الدول النامية، مثل بعض الدول العربية، يُساهم التشخيص المتأخر في تفاقم المشكلة، حيث يصل متوسط عمر الإصابة بالسرطان إلى أقل من 45 عامًا في بعض المناطق، كما أفادت منظمة الصحة العالمية في تقريرها لعام 2022. هذه الإحصائيات تكشف عن تحول في الديموغرافيا الوبائية للسرطان، حيث كان يُعتبر تاريخيًا مرضًا يصيب كبار السن بشكل أساسي.

## الأسباب الرئيسية لزيادة حالات السرطان في صغار السن

### العوامل البيئية والتلوث

يُعد التلوث البيئي أحد أبرز الأسباب المساهمة في هذا الارتفاع. مع التصنيع السريع والتوسع الحضري، تعرض الشباب لمستويات أعلى من المواد الكيميائية الضارة، مثل المبيدات الحشرية والملوثات الصناعية. دراسة أجرتها جامعة هارفارد في عام 2021 وجدت أن التعرض المبكر للديوكسينات والمعادن الثقيلة في الطفولة يزيد من خطر الإصابة بسرطان الدم بنسبة تصل إلى 30%. في المناطق الحضرية، يلعب تلوث الهواء دورًا كبيرًا، حيث أظهرت بحوث في الصين أن الجسيمات الدقيقة (PM2.5) ترتبط بزيادة حالات سرطان الرئة بين الشباب بنسبة 15%.

بالإضافة إلى ذلك، يُشكل التعرض للإشعاع غير الطبيعي، مثل الإشعاعات من الأجهزة الإلكترونية والشبكات اللاسلكية، عاملاً محتملاً، على الرغم من أن الدراسات لا تزال قيد التحقيق. في الدول العربية، يُفاقم نقص التنظيم البيئي هذه المخاطر، خاصة في المناطق الصناعية حيث يتعرض العمال الشباب لمواد مسرطنة دون حماية كافية.

### تغييرات في نمط الحياة والسلوكيات الغذائية

أحد أكبر العوامل هو التحول في أنماط الحياة الحديثة. الانتشار الواسع للطعام السريع والمشروبات السكرية أدى إلى ارتفاع معدلات السمنة، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسرطان. وفقًا للجمعية الدولية لأبحاث السرطان (IARC)، تزيد السمنة من خطر الإصابة بـ13 نوعًا من السرطانات، بما في ذلك سرطان الثدي والقولون، وهي أكثر شيوعًا بين الشباب اليوم. في الولايات المتحدة، أصبحت السمنة سببًا رئيسيًا لزيادة سرطان القولون بين الأشخاص تحت 50 عامًا، حيث ارتفع الوزن الزائد بنسبة 40% بين الشباب منذ عام 2000.

كذلك، يلعب الإقلاع عن التدخين جزئيًا دورًا، لكن انتشار الفيبينغ (التدخين الإلكتروني) بين الشباب يُعيد إحياء المخاطر. دراسة نشرتها مجلة "نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين" في 2022 أشارت إلى أن الفيبينغ يحتوي على مواد كيميائية مسرطنة قد تؤدي إلى سرطان الرئة في سن مبكرة. أما فيما يتعلق بالنشاط البدني، فإن الحياة الراكدة الناتجة عن العمل المكتبي والترفيه الرقمي تقلل من المناعة الطبيعية، مما يجعل الجسم أكثر عرضة للخلايا السرطانية.

### العوامل الوراثية والطبية

رغم أن السرطان ليس وراثيًا بنسبة 100%، إلا أن الطفرات الجينية الموروثة تلعب دورًا متزايدًا مع تقدم التشخيص الجيني. حالات مثل متلازمة لي-فراومي (Li-Fraumeni) تزيد من خطر الإصابة بسرطانات متعددة في سن مبكرة. ومع ذلك، يُعزى الارتفاع الأكبر إلى التفاعل بين الوراثة والبيئة، حيث أظهرت دراسات التوائم أن 90% من حالات السرطان بيئية وليست وراثية بحتة.

من الناحية الطبية، يساهم الاستخدام المتزايد للعلاجات الإشعاعية والكيميائية في علاج أمراض أخرى في الطفولة في زيادة خطر السرطان اللاحق. على سبيل المثال، الأطفال الناجون من السرطان في مرحلة الطفولة يواجهون خطرًا أعلى بنسبة 6 أضعاف للإصابة بسرطان آخر في سن الشباب، كما أفادت دراسة طويلة الأمد من معهد السرطان الوطني الأمريكي.

### الضغوط النفسية والاجتماعية

في عصرنا الحالي، أصبحت الضغوط النفسية عاملاً مساهماً. التوتر المزمن يضعف الجهاز المناعي، مما يسمح للخلايا السرطانية بالنمو. بحوث في جامعة ستانفورد أظهرت أن الاكتئاب والقلق بين الشباب مرتبطان بزيادة خطر سرطان الدم بنسبة 20%. كذلك، جائحة كوفيد-19 أدت إلى تأخير الفحوصات الطبية، مما سمح للسرطانات المبكرة بالتطور دون اكتشاف.

## سبل الوقاية من السرطان في صغار السن

### تبني نمط حياة صحي

الوقاية تبدأ بالتغذية السليمة. يُنصح بتناول نظام غذائي غني بالفواكه والخضروات، الذي يحتوي على مضادات الأكسدة التي تحارب الجذور الحرة المسببة للسرطان. دراسة في مجلة "جورنال أوف نيوتريشن" أكدت أن زيادة استهلاك الألياف يقلل من خطر سرطان القولون بنسبة 25%. تجنب اللحوم المعالجة والسكريات المضافة أمر أساسي، خاصة للشباب الذين يعتمدون على الوجبات السريعة.

النشاط البدني المنتظم، مثل ممارسة الرياضة لمدة 150 دقيقة أسبوعيًا، يعزز المناعة ويقلل من الالتهابات. منظمة الصحة العالمية توصي بتقليل الجلوس أمام الشاشات لأكثر من ساعتين يوميًا لتجنب مخاطر السمنة.

### الفحوصات الدورية والكشف المبكر

الكشف المبكر هو مفتاح الوقاية. يُشجع الشباب على إجراء فحوصات منتظمة، مثل فحص الثدي بالماموغرام للنساء فوق 40 عامًا، أو فحص القولون بالمنظار لمن لديهم تاريخ عائلي. في الدول العربية، يمكن تعزيز البرامج الحكومية للفحوصات المجانية لزيادة الوعي. تطبيقات الهواتف الذكية لتتبع الصحة تساعد في الكشف المبكر عن الأعراض غير الطبيعية.

### الحد من التعرض للمخاطر البيئية

يجب على الحكومات فرض قوانين صارمة للحد من التلوث، مثل تقليل الانبعاثات الصناعية. على المستوى الفردي، يُنصح باستخدام فلاتر المياه وتجنب المنتجات الكيميائية غير الآمنة في المنزل. كذلك، حماية الجلد من أشعة الشمس باستخدام واقيات الشمس تقلل من سرطان الجلد، الذي ارتفع بنسبة 30% بين الشباب.

### التوعية والتعليم الصحي

التعليم هو أقوى أداة وقائية. المدارس والجامعات يمكن أن تدمج برامج توعية عن مخاطر التدخين والكحول، حيث يقلل الإقلاع عن التدخين من خطر السرطان بنسبة 50% خلال 10 سنوات. في المجتمعات العربية، يمكن للحملات الإعلامية التركيز على الأساطير الشائعة حول السرطان لتشجيع السلوكيات الوقائية.

### الدعم الطبي والجيني

للأشخاص ذوي التاريخ العائلي، يُوصى بفحوصات جينية مثل اختبار BRCA لسرطان الثدي. العلاجات الوقائية، مثل اللقاحات ضد فيروس الورم الحليمي البشري (HPV)، تمنع سرطان عنق الرحم بنسبة 90%، ويجب أن تكون متاحة للشباب.

## التحديات والحلول المستقبلية

رغم التقدم، تواجه الوقاية تحديات مثل نقص الوعي في الدول النامية وارتفاع تكاليف الفحوصات. الحلول تشمل الشراكات الدولية لتطوير أدوية وقائية جديدة، مثل مثبطات المناعة، والاستثمار في البحوث الجينومية. في المنطقة العربية، يمكن للدول تعزيز التعاون مع منظمة الصحة العالمية لإنشاء مراكز متخصصة في السرطان للشباب.